Genius Arabia
Budo: جولة في امبراطورية الآرتسموك
إذا نظرنا إلى الهيب هوب من زاوية الفكرة القائلة أن الفن بمرور الزمن يعيد صياغة نفسه مرتكزا على جذوره، أي أن الأفكار و الأذواق الحديثة و الموجات الجديدة في الفن عموما هي رسكلة لما كان مع إضافات و تحوير، أي أن للفن و للثقافة دورة حياة شبيهة بتعاقب الأجيال. أو من منظور آخر بتبني نظرية المحاكاة في الفن و الأدب التي دأبت على تعريف الفن بأنه محاكاة، سواء محاكاة من الدرجة الثانية (عالم المثل)، أو الثالثة (كما قال أفلاطون)، أو درجة ثالثة أقرب للواقع و المعقول (كما وضعته الفلسفة الإسلامية)
و رغم أن المنظورين مختلفين تماما، لكن لا بأس في المواصلة و طرح السؤال
هل كانت 50 سنة كافية لثقافة الهيب هوب لتحاول العودة لجذورها مجددا؟
ثم نواصل من منظور آخر، أين يقدر إبن خلدون الجيل ب 33 سنة و يربط أطوار الدولة الخمسة بتعاقب ثلاثة أجيال، أولها يؤسس و الثاني يواصل علـى خطـى الأول، و الأخيـر -حسبه- يهدم. و بالرجوع إلى عالم اليوم المحكوم بالسرعة و التكنولوجيا فإن فترة حياة الجيل تستمر بالتقلص تبعا للظروف المحيطة
فهل بلغ جيل الهيب هوب اليوم تلك المرحلة التي يجدد فيها نفسه و ينفض الغبار عن جذوره بعد أن أسس لوجوده سابقا، ثم بلغ ذروته، قبل أن يعتنق مرحلة ما بعد الذروة؟
لا شك أن المتابع اليوم للهيب هوب بمختلف عناصره سيلاحظ التوظيف المستمر لجذور هته الثقافة في النتاج الفني الحديث، سواء في المظهر كالموضات الحالية الشبيهة بموضات الفانك، أو عن طريق الصامبلينغ و استعمال العينات التي تعيد بعث الروح في الموسيقى القديمة و إحياءها في ثوب عصري، أو حتى في الروح الفنية التي تميل للإستلهام من الأفكار أو تجديدها دون المساس بلبها فتكون أقرب إلى العودة للجذور الأصلية لتلك الأفكار
و على كل، لعل أبرز تأثير في الهيب هوب في السنوات الأخيرة كان موجة البوم باب الجديدة التي أعادت فرض بعض التوازن في مسار موسيقى الهيب هوب و دفعت بكنوز الأندرغراوند إلى البروز في مجال أوسعمحملين بهته الأفكار، و دون خارطة طريق، سنحاول استكشاف حدود المعرفة في امبراطورية من امبراطوريات الأندرغراوند عن طريق غوصنا في واحد من المشاريع الموسيقية الصادرة مؤخرا في ساحة الراب المغربية و الذي يطرح مضمونا فنيا يعكس إستمرارية الهيب هوب و تطور موسيقى البوم باب و يضع الفواصل بين الموجات السائدة و الموجة المضادة
بودو امبراطورية الآرتسموك، هذا الرابر البروديوسر السلاوي (إبن مدينة سلا بالمغرب) المتشبع بثقافة الهيب هوب و الذي ظل لسنوات ينشط في عمق الأندررغراوند، بصم مؤخرا (26 نوفمبر 2022) على أول مشاريعه الموسيقية، ألبوم مصغر بعنوان بودو يحتوي على ثمانية وصلات، تتضمن 4 تعاونات موسيقية، و عملين على شكل فيديو كليب، و ثلاثة من هته الوصلات كانت من إنتاج سفيان -آرتسموك- نفسه
نظرة عامة على الشكل الخارجي للمشروع (العنوان، الغلاف، و القائمة الموسيقية) و إستماع واحد أولي كافي لنستنبط بعض الأفكار العامة حول مضمون المشروع و التوجه الفني الذي يحمله
عنوان المشروع بودو، و هي كلمة يابانية ترمز لفنون الدفاع عن النفس اليابانية و التي ترجع بأصولها إلى "البوشيدو" و هو طريق المحاربين و ميثاقهم الأخلاقي المتبع. و في نفس الوقت فإن "بودو" يتعدى أساليب القتال إلى الممارسات الأخلاقية و الروحية للفرد، فهو مفهوم فلسفي (متأثر بالتاو الصيني) يهدف لخلق الإنسجام بين المحارب و الكون، فيصبح "بودو" أسلوب حياة المحارب
و هذا المعنى المتضمن في كلمة "بودو" يظهر واضحا في غلاف المشروع. أين نرى آرتسموك بلباس المحاربين يحمل بيده اليمنى سيف الساموراي (مع إشارة من كف يده اليمنى)، و باليد الأخرى يرفع إصبعه الأوسط. بينما تظهر الخلفية قمرا أحمر (مألوفا لدى الساموراي)، إضافة لتفاصيل أخرى نستطيع إستقراء أفكار عدة منها، كالجمجمة (أسفل الصورة) و الرموز الموضوعة على السيف، و كذا الرمز الأمازيغي (ظاهر على السيف و على القمر الأحمر)، و حتى رمز *آرتسموك* المكتوب بشكل ياباني. لكن أكثر التفاصيل إثارة تبرزه الملابس، إذ تظهر أنها تدمج مجموعة من الأفكار. فقد تبدو بداية بأسلوب الساموراي، لكن الدروع تظهرها أقرب للباس المحاربين بوشي، ثم هناك لمسة من موضة الشارع و ثقافة الهيب هوب
و الدمج بين هته الأفكار إضافة للجو الموسيقي العام و العينات المستعملة، كل هذا يعبر عن شخصية *آرتسموك* التي ستنعكس في مشروعه هذا
و من الغلاف إلى القائمة الموسيقية، نلاحظ أولا أن المشروع يتضمن سبعة وصلات و الثامنة بونيس، و قد تخلى آرتسموك في هته القائمة عن توظيف تلك العناصر التقنية التي تضيف الترابط و ترسم حبكة القصة (من انترو، اوترو، انترلود، سكيت ..)، لكنه حقيقة قد وظفها بطريقة غير مباشرة. إذ أن أول وصلة من المشروع كانت عرضا واضحا لفكرة "بودو"، و في مقطعين فوق لحن من إنتاجه، رحب بنا آرتسموك في مملكته :"Peace جبدت القصايد من الخزنة نقراو ال الحرب و ال
Empire فتحت باحة من دماغي باش نساريك ف
ما فيها لا شعب لا حاكم لا وزير Empire فهاد ال
و الهيب هوب كأرشيتاكتير Legacy غا تشوف ال"
(Art Smoke - Inner-G)بينما انتهت آخر وصلة في المشروع بأوترو موسيقي يختم بسلاسة التدفق المستمر على طول المشروع، خصوصا و أن البيت المستعمل فيها بني على عينة مرعبة من عينات جون هاريسون التي أنتجها لواحد من مسلسلات الرعب الأمريكية المشهورة
John Harrison - Prologue (Creepshow OST)
و بين هذا و ذاك فقد استغل آرتسموك الإقتباسات التي تخدم طرحه و وظفها كجسور موسيقية في بعض الوصلات
أما عن ضيوف المشروع فتكفي معرفة أسماءهم لتظهر باقي الصورة، ديب و مهدي بلاك ويند، ضيفان ثقيلان، ثم يضيف آرتسموك العنصر النسوي لمشروعه بالتعاون مع ليون ليا، لتختم هته التعاونات بإسم غني عن التعريف في ساحة الهيب هوب المغربية ديجي سيم ايتش الذي أصر على بعث روح الفينيل و أصوات السكراتش التي تناسقت مع الجو الموسيقي لبودو
أما عن الألحان المستعملة، فإضافة لإنتاجه (آرتسموك) ثلاثة وصلات من هذا المشروع، فقد تعاون مع أسماء معروفة في الساحة المغربية بتفردها -خاصة في البومباب- و إحياءها للعينات الموسيقية التي تناساها الزمن"فالبيت نافخ كي اسرافيل فالصامبل Area 212"
(Art smoke - Know-Ma-Ledge)
مواصلة الغوص في دقائق الشكل العام لهذا المشروع ستظهر تفاصيله بدقة مع كل استماع
لا يخفى عن المستمع لموسيقى الهيب هوب أن عديد الرابرز قد يتميزون بالإنتاج الغزير و المختلف، لكن التركيز على طريقة كتابتهم و تحليلها يكشف الكثير عنهم و عن أسلوبهم، و قد نجد في عديد الأحيان لدى بعض الرابرز -و رغم معرفتهم الواسعة و خبرتهم- فقرا في الأساليب الكتابية و جفافا جماليا و بالأخص شحا في المصطلحات، إذ يصبح الرابر حبيسا لمجموعة من الكلمات و التشبيهات التي دائما ما تتكرر في مقاطعه مهما اختلف المضمون، و هذا ما لم نلاحظه في آرتسموك، إذ رغم توضيفه لأسلوب كتابته الذي دأب عليه، إلا أنه دائما ما يتمكن من الإتيان بطرح مختلف، خاصة بإستعماله للمصادر الميثولوجية و العودة للإستنباط من الثقافات المختلفة سواء على مستوى الأفكار، أو بغرض توضيفها في التشبيهات و بناء الصور البيانية و البنشلاينز
و إن نحن ألقينا نظرة سريعة على عناوين بعض طراكات "بودو" فسنلاحظ التلاعب بالكلمات الذي يعتمده آرتسموك، و الذي دائما ما يكون مبنيا على فكرة تحيلنا لمصدر، لثقافة مختلفة، أو قصة ميثولوجية أو تاريخيةInner-G = Energy = Inner Energy = Inner Godتوظيف المصطلحات و الأفكار المتعلقة بموضوع
Knowledge of god, Nation of islam & The Five percenters
ليس بالأمر الغريب أو الجديد في إنتاجات الآرتسموكTrick-nology = Trick & Technology = Trick & knowledge & LogyFive prcenters 5%مرة أخرى إحالة واضحة لقصة *يعقوب* كما هي معروفة عند ال
و من معنى المصطلح يطرح أرتسموك فكرة الإعلام و التكنولوجيا، و خداعهما المستمر للبشرية
تريك-نولوجي مصطلح ظهر بداية عند أمة الإسلام لكنه انتشر عن طريق حركة 5 % و المصطلح يشير إلى التضليل و الإحتيال الذي يمارس عن طريق العلم و التكنولوجيا (هذا في التعريف العام دون الغوص في قصة يعقوب)، أو بشكل أوسع الهيمنة الإيديولوجية .. (و الإطلاع على قصة يعقوب كما توردها أمة الإسلام أو البحث في جذور المصطلح كفيل بالتوضيح أكثر، كما أن الإستماع لهته الوصلة من المشروع سيوضح المعنى)Know-Ma-Ledge = Know The Ledge = Knowledgeتلاعب آخر يحيلنا مباشرة إلى واحد من الألبومات المهمة في مسار الهيب هوب دونت سويت ذا تيكنيك للثنائي اريك بي & راكيم
ثم هناك الوصلة السادسة من المشروع بعنوان حشاشين و إحالتها واضحة، و تليها إنكيدوأين يوظف سفيان الميثولوجيا مرة أخرى ليأخذنا إلى قصة غلغامش…
يولد المشروع الموسيقي لحظة كتابته و صناعته و إنتاجه، ثم يولد مرة أخرى لحظة اكتشافه من الجمهور الحقيقي الذي يستطيع فهمه و الإلمام بتفاصيله"عندي البارز مجهدين فيهم بروتين بتنوع
الأوطوتين تلوث مادام مولاه خبير فالتسول
سطوري تصوف يزيدوك شي درجات فالتصور
هيب هوب فتدهور هذا النزيف لي تابع تغوطك"
(Art smoke - Carvin Sword)تحليل المشروع و تفكيك وصلاته و أسطره بالتفصيل، و التركيز على الفلو أو البيتس المستعملة شيء سهل يمكن للمستمع القيام به و الإستمتاع بجمالية التجول وسط وصلاته. لكن فهم الطرح و المضمون العام و فهم الأفكار التي ترسم كيان هذا المشروع في حد ذاته و تكون شخصية الفنان -آرتسموك-، ثم التركيز عليها من منظور الظروف المحيطة بها (أي حالة الموسيقى عموما و وضعية الهيب هوب في العالم و في الساحة المغربية و كذا محل السوق الموسيقية من الإعراب) هو ما يجب أن نقوم به أمام مشاريع من هذا النوع. فرغم أن بودو أول مشروع موسيقي لسفيان، فهو لم يأت من عدم، بل النشاط المستمر لآرتسموك في الهيب هوب منذ سنوات، و بروزه بقوة خاصة في السنتين الأخيرتين سواء عن طريق طراكاته المنفردة و تعاوناته الموسيقية، أو عن طريق صناعة البيتس لعديد الرابرز المغاربة و مشاركته في ألبومات جلها مهما بلغت من استماعات تظل أندرغراوند في محيطها، إذ تواجد بألحانه في ألبوم أسطرونومي و الألبوم المصغر ايمورتال للرابر ديب و في ميكستايب راب خاثر و الألبوم المصغراتجاه الألبوم و ألبوم أطموسفار للرابر نيسيو و في بعض الطراكات المنفردة للرابر ناب ... كما حل ضيفا في تعاونات موسيقية في هته المشاريع المذكورة و غيرها كالغراز الألبوم المصغر ل مهدي بلاك ويند.. كل هذا ساهم في رفع مستوى التحدي الفني و خلق موجة مضادة للتمييع الفني و الموسيقي و وضع أساسا ثابتا لخلق مشروع فني مستقل كل الإستقلال عن تأثيرات الطوندونس (الترند)، قادر بذاته على حمل أفكار و تصورات صاحبه و رواية تفاصيل شخصيته الفنية بما يصاحبها من تأثيرات محيطها الجغرافي و الفني و الثقافي
و كما عرفت ساحة الراب المغربية في السنوات الأخيرة بروز العنصر النسوي بقوة و الذي انحاز بدرجة أكبر إلى الجانب التجاري و الموسيقى الماينستريم، شهدنا كذلك موجة مضادة من رابرز الأندرغراوند في محاولتهم إعادة التوازن، فإضافة لمشروع آرتسموك الذي عرف حضورا نسويا، نجد ألبوم الديب و كذا البلاك ويند و ميكستايب نيسيو، كلها عرفت تواجدا نسويا متميزا يستطيع المنافسة و الإتيان بمنتوج موسيقي مختلف و فريد إن أتيحت له فرصة العمل و البروز، خاصة إن كانت الفرصة في مشاريع من هذا النوع تحمل في مضمونها من القوة و الإبداع و الذكاء و كذا الإختلاف الفني ما يجعلها حية بعيدة عن الساندويشات الموسيقية التي ما تفتأ أن تستهلك و يخفت بريقها
ثم هناك جانب السوق الموسيقية التي و إن كنا لازلنا لا نستطيع أن نقول أن إحدى دول المغرب العربي بلغت مستوى الصناعة الموسيقية بحق، إلا أن المبادرات المختلفة و الفردية أحيانا تساهم كثيرا في تغيير الصورة النمطية ولو بالتدريج. و أكبر ميزة نلاحظها مؤخرا في ساحة الراب المغربية عودة الشاوكايس و العروض الفنية الخاصة الموجهة لجمهور الهيب هوب من جهة، و عودة الإنتاج المادي للمشاريع من جهة أخرى (أقراص مضغوطة و فينيل) كما حدث مع مشروع بودو الذي صدر على شكل قرص مضغوط، و كذا آرناك لمهدي بلاك ويند الذي صدر على شكل فينيل (و كلاهما بالتعاون مع مجموعة إفليسن و هي شركة إنتاج و توزيع مستقلة تتجه أكثر نحو التركيز على أيقونات الأندرغراوند في ساحة الراب المغربية)، ثم مشروع المورفين الأخير على شكل قرص مضغوط و قبلهم فينيل فينيكس للرابر سمال اكس، و جلها صادر بالتعاون مع شركات إنتاج و توزيع مستقلة و التي تتحرك بخطى ثابثة لرسم خارطة جديدة للسوق الموسيقية في محيطها الجغرافي
إمبراطورية بودو ما هي إلا عالم فريد من بين عدة عوالم فريدة أخرى يمكن أن نجدها في عمق الأندرغراوند إن نحن أجدنا الإستكشاف و التجول في هذا العالم الفني العجيب
إن التطور و التجديد لا يعني أبدا التخلي عن روح التمرد الفني و الإبداع، فالأمسي الحقيقي قادر على مواكبة التطور الموسيقي دون أن يفقد من قيمته أو يتيه وسط تقلبات الأجيال و متطلبات عصر السرعة، و الهيب هوبر المؤمن بما يقوم به و المتمسك بثقافته و أسلوب حياته دائما ما يستطيع مجابهة التيارات المختلفة و البقاء في اللعبة لأطول فترة ممكنة، أو نقول البقاء في الحرب متسلحا بفنون *بودو* حتى في الموسيقى و محتكما لميثاق الهيب هوب الذي يفرض مبادئه كما البوشيدو
Peace, Love, Unity & Having Fun