Ibn Khaldoun - إبن خلدون
Al Muqaddima Part 216 : الفصل 55 في صناعة الشعر و وجه تعلمه
الفصل الخامس و الخمسون في صناعة الشعر و وجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب و هو المسمى بالشعر عندهم و يوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم و إلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. و هو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة و تسمى كل قطعين من هذه القطعات عندهم بيتا و يسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا و قافية و يسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة و كلمة. و ينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله و ما بعده. و إذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أؤ تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك و يستطرد للخروج من فن إلى فن و من مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول و معانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني و يبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من التشبيب إلى المدح و من وصف البيداء و الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف و من وصف الممدوح إلى وصف قومه و عساكره و من التفجع و العزاء في الرثاء إلى التأثر و أمثال ذلك. و يراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. و لهذه الموازين شروط و أحكام تضمنها علم العروض. و ليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن و إنما هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور. و قد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما. و اعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب. و لذلك جعلوه ديوان علومهم و أخبارهم و شاهد صوابهم و خطئهم و أصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم و حكمهم. و كانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها. و الملكات اللسانية كلما إنما تكسب بالصناعة و الارتياض في كلامهم حتى يحصل شبة في تلك الملكة. و الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده و يصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب و يبرز مستقلا بنفسه. ثم يأتى ببيت آخر كذلك ثم ببيت آخر و يستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التى في القصيدة. و لصعوبة منحاه و غرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه و شحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. و لا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف و محاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها و استعمالها فيه. لنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة و ما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به. و لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب و لا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو و ظيفة البلاغة و البيان و لا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية و إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. و تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب و أشخاصها و يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب و البيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام و يقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به و توجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله: يا دار مية بالعلياء فالسند و يكون باستدعاء الصحب للوقوف و السؤال كقوله: قفا نسأل الدار التي خف أهلها. أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله: قفا نبك من في ذكرى حبيب و منزل. أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله: ألم تسأل فتخبرك الرسوم. و مثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله: حي الديار بجانب الغزل. أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
أسقى طلولهم أجش هزيم و غدت عليهم نضرة و نعيم
أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلا بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله: أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي. أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لا حام و لا راع مضى الردى بطويل الرمح و الباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألقى الرماح ربيعة بن نزار أودى الردى بفريقك المغوار
و أمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام و مذاهبه. و تنتظم التراكيب فيه بالجمل و غير الجمل إنشائية و خبرية، إسمية و فعلية، متفقة، مفصولة و موصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج و الصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا. و لا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس. و هو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية. و هذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها و الاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. و إن القوانين العلمية من العربية و البيان لا يفيد تعليمه بوجه. و ليس كل ما يصح في قياس كلام العرب و قوانينه العلمية استعملوه. و إنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو و بهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. و لهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب و كلامهم. و هذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة و القوافي المقيدة و استقلال الكلام في كل قطعين و في المنثور يعتبرون الموازنة و التشابه بين القطع غالبا و قد يقيدونه بالأسجاع. و قد يرسلونه و كل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب. و المستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه و لا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب و النساج على المنوال. فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي و البياني و العروضي. نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب. و لا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما و نثرا. و إذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه. و قول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده و لا رسم له. و صناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات و السواكن على التوالي، و مماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. و ذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ و دلالتها. فناسب أن يكون حدا عندهم، و نحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب و البلاغة. و الوزن و القوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره و الأوصاف، المفضل بأجزاء متفقة في الوزن و الروي مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس و قولنا المبني على الاستعارة و الأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر و قولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن و الروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل و قولنا مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك و لم يفصل به شيء. و قولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور. و كذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما و ليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. و بهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي و المعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، و قولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب و غيرهم. و من يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك و يقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. و إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر و إحكام صناعته شروطا أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها و يتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. و هذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة و كثير و ذي الرمة و جرير و أبى نواس و حبيب و البحتري و الرضي و أبى فراس. و أكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله و المختار من شعر الجاهلية. و من كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء و لا يعطيه الرونق و الحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر و إنما هو نظم ساقط. و اجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ و شحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم و بالإكثار منه تستحكم ملكته و ترسخ. و ربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها و قد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة و استجادة المكان المنظور فيه من المياه و الأزهار و كذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها و تنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام و نشاط فذلك أجمع له و أنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه. قالوا: و خير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم و فراغ المعدة و نشاط الفكر و في هؤلاء الجمام. و ربما قالوا إن من بواعثه العشق و الانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة و إعطاء حقها و لم يكتب فيها أحد قبله و لا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر و لا يكره نفسه عليه. و ليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه و نسجه بعضها و يبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة و إذا سمح الخاطر بالبيت و لم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه و لم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء و ليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح و النقد و لا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره و اختراع قريحته و لا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. و الخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة. و قد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. و يجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده. و إنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. و كذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. و إنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا و استعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. و لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. و لهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ و المعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر و الحاكم بذلك هو الذوق. و ليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ و المقصر و كذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة و كذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا و يقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة و السماء فوقنا. و بمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان. و لهذا كان الشعر في الربانيات و النبويات قليل الإجادة في الغالب و لا يحذق فيه إلا الفحول و في القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. و إذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه و يعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء و يجف بالترك و الإهمال. و بالجملة فهذه الصناعة و تعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق و قد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. و من أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. و هذه نبذة كافية و الله المعين. و قد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. و من أحسن ما قيل في ذلك و أظنه لابن رشيق:
لعن الله صنعة الشعر ماذا من ضنوف الجهال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلا للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحا و خسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه و لا يد رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو ن و في الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظم و إن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما تتمنى و لم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن كاد حسنا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه و المعاني ركبن فيها عيونا
إنما في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حرا رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلا قريبا و جعلت المديح صدقا مبينا
و تنكبت ما يهجن في السمع و إن كان لفظه موزونا
و إذا ما عرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء و جعلت التعريض داء دفينا
و إذا ما بكيت فيه على الغا دين يوما للبين و الظاعنينا
خلت دون الأسى و ذللت ما كا ن من الدعع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبا جئت بالو عد وعيدا و بالصعوبة بينا
فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا
و أصح القريض ما قارب النظم و إن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرا و إذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي:
الشعر ما قومت ربع صدوره و شددت بالتهذيب أس متونه
و رأيت بالأطناب شعب صدوعه و فتحت بالايجاز عور عيونه
و جمعت بين قريبه و بعيده و جمعت بين مجمه و معينه
و إذا مدحت به جوادا ماجدا و قضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بتفتش و رضيته و خصصته بخطيره و ثمينه
فيكون جزلا في مساق صنوفه و يكون سهلا في اتفاق فنونه
و إذا بكيت به الديار و أهلها أجريت للمخزون ماء شؤونه
و إذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره و بطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه بثبوته و ظنونه بيقينه
و إذا عتبت على أخ في زلة أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستانسأ بدماثة مستأمنا لوعوته و حزونه
و إذا نبذت إلى الذي علقتها إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه و رفيقه و شغفتها بخبيه و كمنه
و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها و أشكت بين مخيله و مبينه
فيحول ذنبك عند من يعتده عتبا عليه مطالبا بيمينه